فصل: الكلام على قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الكلام على قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}

قال الزجاج المعنى إذا ذكرت عظمته وقدرته وما خوف به من عصاه فزعت قلوبهم يقال وجل يوجل وياجل وييحل وييجل وقال السدي هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فينزع عنها كان الحسن يقول إن لله عبادًا كمن رأى أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وكان سميط يقول أتاهم من الله وعيد وقذهم فناموا على خوف وأكلوا على تنغيص وقال سري أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الفرقى قال أبو طارق شهدت ثلاثين رجلًا ماتوا في مجالس الذكر يمشون بأرجلهم صحاحًا إلى المجلس وأجوافهم قريحة فإذا سمعوا الموعظة تصدعت قلوبهم فماتوا وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب فما أشتهيه وقيل صلى زرارة بن أبي أوفى بالناس فقرأ المدثر فلما بلغ {فإذا نقر في الناقور} خر ميتًا وكان إبراهيم التيمي يذكر وأبو وائل ينتفض انتفاض الطير وقال يوسف بن أسباط لما أتى ذو القرنين السد قال دلوني على أعبد رجل فيكم فقالوا في هذا الوادي رجل يبكي حتى نبت من دموعه الشجر فهبط الوادي فأتاه فوجده ساجدًا وهو يقول إلهي اقبض روحي في الأوراح وادفن جسدي في التراب واتركني هملًا لا تبعثني يوم الحساب وقال مالك بن دينار رأيت جويرية تطوف بالبيت وتقول يا رب كم من شهوة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها يا رب ما كان لك عقوبة إلا بالنار فما زالت كذلك إلى الصباح يا عجبًا تنام عين مع مخافة أم كيف تلهو نفس مع ذكر المحاسبة كان داود الطائي يقول في ظلام الليل همك عطل على الهموم وحالف بيني وبين السهاد فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب وقيل كان عتبة الغلام طويل البكاء فقيل له ارفق بنفسك فقال إنما أبكي على تقصيري.
وقيل لعبد الواحد بن زيد ما نفهم كلامك من بكاء عتبة فقال أيبكي عتبة على نفسه وأنهاه أنا لبئس واعظ قوم وكان يزيد بن مرثد دائم البكاء فكانت زوجته تقول ويحي ما خصصت به من طول الحزن معك ما تقر لي عين:
ما كان يقرأ واش سطر كتماني ** لو أن دمعي لم ينطق بتبيان

ماء ولكنه ذوب الهموم وهل ** ماء يولده نيران أحزاني

ليت النوى إذ سقتني سم أسودها ** سدت سبيل امرئ في الحب يلحاني

قد قلت بالجزع لما أنكروا جزعي ** ما أبعد الصبر ممن شوقه داني

عجنًا على الربع نستسقي له مطرًا ** ففاض دمعي فأرواه وأظماني

لما خفيت العواقب على المتقين فزعوا إلى القلق واستراحوا إلى البكاء قال مالك بن دينار وددت أن الله عز وجل أذن لي يوم القيامة إذا وقفت بين يديه أن أسجد سجدة فأعلم أنه قد رضي عني ثم يقول يا مالك كن ترابًا:
قد أوبقتني ذنوب لست أحصرها ** فاجعل تغمدها من بعض إحسانك

وارفق بنفسي يا ذا الجود إن جهلت ** مقدار زلتها مقدار غفرانك

أعقل الناس محسن خائف وأحمق الناس مسيء آمن كان بشر الحافي لا ينام الليل ويقول أخاف أن يأتي أمر الله وأنا نائم:
وكلما هم بذوق الكرى ** صاح به الهجران قم لا تنم

ذكرت نفوس القوم العذاب فأنت وتفكرت في شدة العتاب فأرنت تذكرت ما جنت مما تجنت فجنت أزعجها الحذر ولولا الرجاء ما اطمأنت آه لنفس ضنت بما بذلوه ثم رجت ما نالوه بئس ما ظنت ما نفس سابقت كنفس تأنت:
طربت لذكرى منك هزت جوانحي ** كما يطرب النشوان كأس مدام

وما ذكرتك النفس إلا أصابها ** كلذع ضرام أو كوخز سهام

وإن حديثًا منك أحلى مذاقه ** من الشهد ممزوجًا بماء غمام

كيف لا يخاف من قلبه بيد المقلب من ظن أن عمي يسلم من ظن أن برصيصًا يكفر رب غرس من المنى أثمر وكم من مستحصد تلف كرة القلب بحكم صولجان التقليب إن وقفت الكرة طردت وإن بعدت طلبت ليبين سر لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا نادى نادي البعد ألا {تقنطوا} ويقال للمذنبين {ويحذركم الله نفسه} لما قرب جبريل وميكائيل اهتزت الملائكة فخرًا بقرب جنسها من جناب العزة فقطع من أغصانها شجرة هاروت وكسر غصن ماروت وأخذ من لبها كرة {وإن عليك لعنتي} فتزودت في سفر العبودية زاد الحذر وقادت في سبيل معروفها نجب التطوع للمنقطعين {ويستغفرون لمن في الأرض} نودي من نادى الإفضال {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} فسارت نجائب الأعمال إلى باب الجزاء فصيح بالدليل {لولا أن ثبتناك} فقال: {ما منكم من ينجيه عمله} رحم الله أعظمًا طالما نصبت وانتصبت جن عليها الليل فلما تمكن وثبت وثبت إن ذكرت عدله ذهبت وهربت وإن تصورت فضله فرحت وطربت اعترفت إذ نبت عن طاعته أنها قد أذنبت وقفت شاكرة لمن لحمها على جوده نبت هبت على أرض القلوب عقيم الحذر فاقشعرت وندبت فبكت عليها سحائب الرجاء فاهتزت وربت بحسبك أن قومًا موتى تحيا بذكرهم النفوس وأن قومًا أحياء تقسو برؤيتهم القلوب رحل القوم وبقيت الآثار في الآثار سألوا طلول التعبد عنهم فقالت خلت الديار:
إذا دمعي شكا البين بينها ** شكا غير ذي نطق إلى غير ذي فهم

جال الفكر في قلوبهم فلاح صوابهم وذكروا التوفيق فمحا التذكر إعجابهم وما دوا للمخافة فأصبحت دموعهم شرابهم وترنموا بالقرآن فأمسى مزهرهم وربابهم وكلفوا بطاعة الإله فألفوا محرابهم وخدموه مبتذلين في خدمته شبابهم فيا حسنهم وريح الأسحار قد حركت أثوابهم وحملت قصيص القصص ثم ردت جوابهم:
نسيم الصبا إن زرت أرض أحبتي ** فخصهم عني بكل سلام

وبلغهم أني رهين صبابة ** وأن غرامي فوق كل غرام

وإني ليكفيني طروق خيالهم ** لو أن جفوني متعت بمنام

ولست أبالي بالجنان وباللظى ** إذا كان في تلك الديار مقامي

وقد صمت عن لذات دهري كلها ** ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

لا يطمعن البطال في منازل الأبطال إن لذة الراحة لا تنال بالراحة من زرع حصد ومن جد وجد:
وكيف ينال المجد والجسم وادع ** وكيف يجاء الحمد والوفر وافر

أي مطلوب نيل من غير مشقة وأي مرغوب لم تبعد على طالبة الشقة المال لا يحصل إلا بالتعب والعلم لا يدرك إلا بالنصب واسم الجواد لا يناله بخيل ولقب الشجاع لا يحصل إلا بعد تعب طويل:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن ** لما يشق على السادات فعال

أمضى الفريقين في أقرانه ظبة ** والبيض هادية والسمر ضلال

يريك مخبره أضعاف منظره ** بين الرجال ففيها الماء والآل

لولا المشقة ساد الناس كلهم ** الجود يفقر والإقدام قتال

وإنما يبلغ الإنسان طاقته ** ما كل ماشية بالرحل شملال

إنا لفي زمن ترك القبيح به ** من أكثر الناس إحسان وإجمال

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ** ما فاته وفضول العيش أشغال

سبحان من أيقظ المتقين وخلع عليهم خلع اليقين وألحقهم بتوفيقه بالسابقين فباتوا في جلباب الجد متسابقين.

.سجع على قوله تعالى: {وجلت قلوبهم}

كلما أذهب الأعمار طلوعهم وغروبهم سالت من الأجفان جزعًا غروبهم وكلما لاحت لهم في مرآة الفكر ذنوبهم تجافت عن المضاجع خوفًا جنوبهم وكلما نظروا فساءهم مكتوبهم {وجلت قلوبهم} دموعهم على الدوام تجري وعزتي لأربحنهم في معاملتي وتجري عظمت قدرتي في صدورهم وقدري فاستعاذوا بوصلي من هجري عاملوا معاملة من يفهم ويدري فنومهم على فراش القلق وهبوبهم {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} أموات عن الدنيا ما دفنوا أغمضوا عنها عيونهم وحزنوا ولو فتحوا أجفان الشره لفتنوا باعوها بما يبقى فلا والله ما غبنوا تالله لقد حصل مطلوبهم {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.
حبسوا النفوس في سجن المحاسبة وبسطوا عليها ألسن المعاتبة ومدوا نحوها أكف المعاقبة وتحق لمن بين يديه المناقشة والمطالبة فارتفعت بالمعاتبة عيوبهم {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} شاهدوا الأخرى باليقين كرأى العين فباعوا العقار وأخرجوا العين وعلموا بمقتضى الدين أن التقى دين فدنياهم خراب وأخراهم على الزين قد قنعوا بكسرتين وجرعتين هذا مأكولهم وهذا مشروبهم {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} والحمد لله وحده. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1- {عرضها السموات والأرض} أي كعرض السموات والأرض حذقت أداة التشبيه ووجه الشبه، وسمى هذا بالتشبيه البليغ.
2- {سارعوا إلى مغفرة} من باب تسمية الشيء باسم سببه أي إلى موجبات المغفرة.
3- {السراء والضراء} فيه الطباق وهو من المحسنات البديعية.
4- {ومن يغفر الذنوب إلا الله} استفهام يقصد منه النفي أي لا يغفر.
5- {أولئك جزأوهم مغفرة} الإشارة بالبعيد للإشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم في الفضل، وعظم الإجر.
6- {ونعم أجر العاملين} المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك النعيم الخالد.
7- {وليعلم الله} هو من باب الإلتفات لأنه جاء بعد لفظ {نداولها} فهو التفات من الحاضر إلى الغيبة، والسر تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله.
8- {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} فيه قصر موصوف على صفة.
9- {انقلبتم على أعقابكم} هذه استعارة لطيفة، شبه سبحانه الرجوع في الإرتياب بالرجوع على الإعقاب، أي من يرجع عن دينه فقد خاب وشقي. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
ما نافية، ولا عمل لها هنا مطلقًا- أعني: على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها- ألبتة- والحجازيين يُعْملونها بشروط، منها: ألا يَنْتَقضَ النفي بـ {إلا} إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله- وهو شبهها بليس في نفي الحال- فيكون {مُحَمَّدٌ} مبتدأ، و{رَسُولٌ} خبر.
هذا- أعني: إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها- مذهب الجمهور، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ بـ {إلا}.
وأنشد: [الطويل]
وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُونًا بِأهْلِهِ ** وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا

فنصب منجنونًا، ومُعَذَّبًا على خبر ما، وهما بعد إلا.
ومثله قول الآخر: [الوافر]
وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَارًا ** وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا

فحق اسم ما ونكالا خبرها.
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ، والتقدير: وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِدَوَرَانَ ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب، وكذا: إلا مُعَذَّبًا تقديره: يُعَذَّبُ تعذيبًا، فحُذِف الفعلُ، وأقيم معذَّبًا مقام تَعْذِيب، كقوله تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] أي: كل تمزيق. وكذا: إلا نَكَالًا، وفيه من التكلُّف ما ترى.
و{مُحَمَّدٌ} هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل، والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال. وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه- جل جلاله- وهما محمد وأحمد.
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى محمدا.
قوله: {قَدْ خَلَتْ} في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها في محل رفع؛ صفة لِـ {رَسُولٌ}.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في {رَسُولٌ}، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد، فلا تتحمل ضميرًا.
قوله: {من قبله} فيه وجهان أيضا:
أظهرهما: أنه معلق بـ {خلت}.
والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من {الرُّسُلُ} مقدَّمًا عليها، وهي- حينئذ- حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة.
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ {رُسُلٌ}- بالتنكير-.
قال أبُو الفَتْحِ: ووجها أنه موضع تيسير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد، كقوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13].
وقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40].
وقال أبُو البَقَاءِ: وهو قريب من معنى المعرفة. كأنه يريد أن المراد بالرسل الجنس، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية.
وقراءة الجمهور أولى؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم.
قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ} الهمزة لاستفهام الإنكار، والفاء للعطف، ورتبتها التقديم؛ لأنها حرف عطف، وإنما قُدِّمت الهمزة؛ لأن لها صَدر الكلام، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلًا محذوفًا تعطف الفاء عليه ما بعدها.
قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ:
الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه، ولو صُرِّحَ به لقيل: أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم.
وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ، إلا أنَّ الزمخشريَّ- هنا- عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة؛ فإنه قال: الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى التسبيب، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سببًا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه- بموتٍ أو قَتْل- مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله، وبقاء دينهم متمسكًا به يجب أن يجعل سببًا للتمسُّك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه.